فصل: تفسير الآيات (5- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (12- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [12- 16].
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} قال أبو السعود: استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. والبطش: الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام، كقوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي: يبدئ الخلق ثم يعيده. قال الإمام: وهو في كل يوم يبدئ خلقاً من نبات وحيوان وغيرهما، ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى، ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه.
{وَهُوَ الْغَفُورُ} أي: لمن يرجع إليه بالتوبة {الْوَدُودُ} أي: المحب لمن أطاعه وأخلص له.
{ذُو الْعَرْشِ} أي: المُلكِ والسلطان أو السماء {الْمَجِيدُ} أي: العظيم في ذاته وصفاته. وقرئ بالجر صفة للعرش. ومجدُه: علوُّه وعظمته.
{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أي: لا يريد شيئاً إلا فعله، فلا يحول بينه وبين مراده شيء، فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين فعل؛ لأن له ملك السماوات والأرض، ولذا تأثره بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (17- 22):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [17- 22].
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} أي: الذين تجنَّدوا على الرسل بأذاهم.
قال ابن جرير: أي: قد أتاك ذلك وعلمتَهُ، فاصبر لأذى قومك وإياك لِما نالوك به من مكروه، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي، ولا يثنيّنك عن تبليغهم رسالتي كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عَطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود، فالجملة- كما قال أبو السعود- استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة، والكفرة العتاة وكونه فعالاً لما يريد متضمن لتسليته صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومَه ما أصاب الجنود.
وقوله تعالى: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} بدل من {الْجُنُودِ} لأن المراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي: للحق والوحي، مع وضوح آياته وظهور بيناته، عناداً وبغياً. والإضراب انتقالي للأشد، كأنه قيل: ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك، فإنهم مع علمهم بما حل بهم، لم ينزجروا، وفي جعلهم {فِي تَكْذِيبٍ} إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
{وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} أي: محصٍ عليهم أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها. فاللفظ كناية عما ذكر. أو المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً. ففيه استعارة تمثيلية.
قال الشهاب: وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا اللهَ وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} أي: سامٍ شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته.
{فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قرئ بالرفع صفة لـ: {قُرْآنٌ}، والجر صفة اللوح. قال ابن جرير: والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح، وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه، عما أثبته الله فيه. و{بَلْ} إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه، إلى وصف القرآن بما ذكر، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء، فإنه تعالى تولَّى حفظه وظهوره أبد الآبدين.

.سورة الطارق:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [1- 4].
{وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي: المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقاً لأنه يطرق ليلاً أي: يبدو فيه.
قال الشهاب: الطارق من الطرق، وأصل معناه الضرب بوقع وشدةٍ يسمع لها صوت، ومنه المطرقة والطريق؛ لأن السابلة تطرقها، ثم صار في عرف اللغة اسماً لسالك الطريق، لتصور أنه يطرقها بقدمه، واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلاً طارقاً؛ لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.
والتعريف في {النَّجْمُ} للجنس. وأصل معنى الثقب الخرق، فالثاقب الخارق، ثم صار بمعنى المضيء، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي: مهيمن عليها رقيب، وهو الله تعالى، كما في آية:
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52]، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، وقد قرئ: {لما} بالتخفيف، فـ: {إن} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و{كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ و{عَلَيْهَا حَافِظٌ} خبره. وما صلة واللام هي الفارقة. وقرئ: {لمَّا} بالتشديد على أنها بمعنى إلا الاستثنائية، و{إِن كُلُّ} نافية والخبر محذوف، أي: ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و{كُلُّ} على هذا مؤكدة؛ لأن {نَّفْسَ} حينئذ نكرة في سياق النفي، فتعم.
قال ابن جرير: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك التخفيف؛ لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام العرب، غير أن الفَرَّاء كان يرى أنها لغة في هُذَيل، يجعلون إلا مع إن المخففة لمّا، فإن كان صحيحاً ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة، وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.
وقد صحح غير واحد ثبوتها، وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة، واستشهد ابن هشام لها في المغني فراجعه.
انظر تفسير الآيات السابقة.

.تفسير الآيات (5- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [5- 10].
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي: إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر إلخ.
قال الإمام: قوله: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَاْن} بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها، زيادة في التأكيد، ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها، ثم إن هذا السائل ينشأ خلقاً كاملاً كالْإِنْسَاْن مملوءاً بالحياة والعقل والإدراك، قادراً على القيام بخلافته في الأرض، فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى، كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الْإِنْسَاْن أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه، وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة قادر على أن يعيده، فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق، ويعدل بها عن سبل الشر، فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.
و{دَافِقٍ} من الدفق، وهو صبٌّ فيه دفع. وقد قيل: إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المغعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل كـ: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45].
والصحيح أنه بمعنى النسبة كـ: لابن وتامِر، أي: ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقاً؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً، أي: يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث، أقوال.
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أي: من بين صلب الرجل ونحر المرأة.
قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فَقار، ويعبر عنهُ في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقاً لاسم الجزء على الكل. و{التَّرَائِبِ} موضع القلادة من الصدر، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة، أي: أن ذلك الماء الدافق إنما يكون مادة لخلق الْإِنْسَاْن إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة، فقوله: {يَخْرُجُ} إلخ وصف لابد من ذكره لبيان أن الْإِنْسَاْن إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منهُ.
وقال بعض علماء الطب: الترائب جمع تربية وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس:
ترائُبها مَصْقولة كالسَّجَنْجَل

قال: ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين الصلب- أي: فقرات الظهر في الرجل- والترائب أي: عظام صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر الأورطي، وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريباً، ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة، ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ} أي: الحافظ سبحانه، المتقدم في قوله: {لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أو الخالق المفهوم من خلق {عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي: رجع الْإِنْسَاْن وإعادته في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى.
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي: تظهر وتعرف خفيات الضمائر.
قال الزمخشري: السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث.
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أي: من قوة يمتنع من عذاب الله وأليم نكاله. ولا ناصر ينصرهُ فيستنقذه ممن ناله بمكروه، يعني أنه فقد ما كان يعهدهُ في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته، يمتنع منهم ممن أرادهُ بسوء. وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.

.تفسير الآيات (11- 17):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [11- 17].
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ} أي: المطر، يسمى رجعاً لأنه تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً إلى العباد، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم.
{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: النبات؛ لأنه يصدع الأرض، أي: يشقها، أي: الانشقاق بالنبات، فهو علم أو مصدر.
{إِنَّهُ} أي: القرآن الكريم {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي: حق فرق بين الحق والباطل {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي: بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب، بل هو جدّ الجدّ.
{إِنَّهُمْ} أي: المكذبين به، الجاحدين لحقه {يَكِيدُونَ كَيْداً} أي: يمكرون مكراً لإبطال أمر الله وإطفاء نوره.
{وَأَكِيدُ كَيْداً} قال ابن جرير: أي: وأمكر مكراً. ومكرُه جل ثناؤه بهم إملاؤهُ إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية، بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم بالكيد، وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي: لا تستعجل عقابهم.
وقوله: {أَمْهِلْهُمْ} بمعنى: مهلهم، فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله:
{رُوَيْداً} أي: قليلاً.
قال الإمام: وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بل لكل داعٍ إلى الحق الذي جاء به، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله، وأن المناوئين له هم الخاسرون.

.سورة الأعلى:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [1- 5].
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي: نزِّه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله:
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، فالاسم صلة. وسِرُّ إيراده أن المنوَّه به إذا كان في غاية العظمة، كثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى، لاستحالة اكتناه ذاته العلية، فأقحم تنبيهاً على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم «كانوا إذا قرؤوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى»، كما رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم، بعضها اللات وبعضها العزى، حكاه ابن جرير، فالإسناد على ظاهره، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في الفصل حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى، ذهاباً إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره. فقال ابن حزم رحمه الله: وأما قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فهو على ظاهره دون تأويل؛ لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل، هو تنزيه الشيء عن السوء، وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقاً به. ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 95- 96]، معنى واحد، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه. ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه، فكلا الوجهين صحيح. وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص. ولا فرق بين قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وبين قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48- 49].
والحمد بلا شك هو غير الله، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه، ولا فرق، فبطل تعلقهم بهذه الآية. انتهى كلامه.
وقد يقال: فرق بين الآيتين، فإن الباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للملابسة، ولا كذلك هي في {بِاسْمِ رَبِّكَ} ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار ولآية {فَسَبِّحْهُ} وآية {سُبْحَانَ رَبِّكَ} والله أعلم.
و{الْأَعْلَى} هو الأرفع من كل شيء، قدرةً وملكاً وسلطاناً. واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف. والمسألة معروفة.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} قال الزمخشري: أي: خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم.
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرَّفه وجه الانتفاع به.
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي: أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات.
{فَجَعَلَهُ} أي: بعد خضرته ونضرته {غُثَاء} أي: جافاً يابساً تطير به الريح {أَحْوَى} أي: أسود، صفة مؤكدة لـ: {غُثَاء} لغثاء؛ لأن النبات إذا يبس تغير إلى الحوّة، وهي السواد.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام لغة العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد فجعله غثاءً بعد ذلك. وهذا القول وإن كان غير مدفوع، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره، فأما وله في موضعه وجه صحيح، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. انتهى. والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة.